-->
U3F1ZWV6ZTQ3NzczMTE4MTY4X0FjdGl2YXRpb241NDEyMDM1MTUxMTU=
recent
آخر المشاركات

تشارلي شابلن | راسم الضحكة ليس سعيداً بالضرورة

تشارلي شابيلن


في المرحلة الابتدائية .. كان هناك قرين لي في الفصل عنده ملكة ظرف الدم ..شئ مثل جين رباني خلق به يجعله لو قال أي شئ و لو كان سخيفاً سيضحك الجميع على الفور .. المدرس و الفتيات و خصوصاً كانت هناك فتاة بضفيرة شغفت بها تغيظني كلما رأيتها تضحك على نكاته .. كان هذا الأمر يعصبني بشدة فأنا كنت قاتماً عابس الوجه دائماً لا أجيد القاء الدعابات التلقائية كما كان يبرع في فعلها هذا الفتى .. و أضمرت في نفسي حقداً دفيناً له حتى أنني كنت أبرحه ضرباً أحياناً بلا سبب .. فقط ذنبه الوحيد أنه كان خفيف الظل و يضحك الجميع على نكاته .. فكرت في تقليده و حفظت دعاباته التلقائية و أعدت تسميعها في البيت مراراً و ضبطت كل الاعدادات كتوقيت القاءها في الفصل و هكذا ..

و في اليوم الموعود قررت القاء الدعابة .. الأمر كان صعباً فعلاً .. الأدرينالين ارتفع افرازه في جسدي و تحولت دقات القلب لمنبه مزعج قادر على ايقاظ جاموس بري نائم و ألقيت الدعابة .. ثم .. لم يضحك أحد .. حاولت مرة أخرى .. و لم يضحك أحد .. احمر وجهي خجلاً و أحسست أن أذني أصبحتا بحجم شوالين من القمح .. تفهمت الأمر و تقبلته .. أنا لا أصلح لمثل هذه الدعابات التلقائية كالتي يلقيها الفتى .. لكن هذا لم يمنعني من ابراحه ضرباً كلما أتاحت الفرصة كما كنت أذكره في أوقات كثيرة بلا داعي أنني الأكثر تفوقاً .. كان الفتى طيباً للغاية و على وجهه مسحة من القبول و البشاشة لكن هذا لم يمنعني أيضاً من اضطهاده .. بمعنى أوضح " أنت تضحك الفتيات في وجودي يا جيمس بوند .. اذن سأجعل حياتك جحيماً " ..

كنت طفلاً سادياً للغاية و لو كان هناك كلب دوبرمان ألماني مفترس رأى معاملتي لذلك الفتى لتوسل لي طالباً رحمته ... بعدها بفترة قابلت هذا الفتى و كانت هناك حاجة اضطرتني لدخول بيته ..كان بيته يضج بالمشاكل و الصوت العالي و من الواضح أن الفتى كان يعاني نوعاً ما من اضطهاد أبيه غير المبرر و من الواضح أن هذا الأمر مستمر في بيته منذ الأزل .. من الدعابات التي كان يلقيها فتانا اعتقدت أنه يعيش في بيت ملئ بالبلالين و الدباديب و الألوان المبهرجة و حتماً أبوه يعمل بلياتشو في سيرك ما و هناك طبعاً طبيب خاص للفتى مهمته تتلخص في حقنه لذلك الفتى بالسيروتونين حتى يكون على هذا القدر من البراعة و السعادة لالقاء الدعابات بكفاءة و أريحية تامة و دون حفظها مراراً في البيت كما يفعل التعساء مثلي لكني كنت مخطئاً تماماً .. هذا الفتى كان يعيش حياة بائسة و لم يكن هناك طبيب يحقن وريده بالسيروتونين... كان السؤال الذي دار برأسي حينها هو " من أين أتى ذلك الفتى بكل هذه الدعابات ؟" أو السؤال بمعنى أوضح " كيف مع كل هذا الاضطراب النفسي العائد لتصرفات العائلة معه أن يلقي هذه الدعابات بهذه الروح المرحة ؟"



قرأت في علم النفس و عرفت وقتها حقيقة ما .. أدركت أن كل فرد فينا يستيقظ يومياً ليعيش معركته التي لا يعلم استراتيجيتها سواه .. كل واحد منا يجلس وحيداً في كالوسه لا يعلم أحد عنه شيئاً .. ظهورنا على المسرح سويا ليس المشهد الرئيسي في تلك المسرحية ... ذلك المشهد المزيف الذي يرتدي كل ممثل فيه قناعه و يلعب دوراً كتب السيناريو الخاص به قبل أن يخرج لخشبة المسرح .. لطالما كان الكالوس هو المشهد الرئيسي .. ذلك المشهد على المسرح لم يكن جوهر الحكاية أبداً

.

ربما يتضح كلامي أكثر اذا حكيت لك قصة كتبها عزيز نيسين حين أتى رجل لطبيب يشكوه همومه و كرهه للحياة فنصحه الطبيب أن يذهب للسيرك حيث هناك مهرج يضحك الجميع فأطرق الرجل أرضاً و قال للطبيب : لكنني يا دكتور .. المهرج نفسه ! ...

كنت أعشق أفلام تشارلي شابلن الساخرة و أنا طفل .. لم أكن أعرف اسم الرجل آنذاك لكن أبي أخبرني باسمه و نسيته بعدها بثوان لكني ظللت مغرماً بأفلامه التي تعرضها القناة الأولى كل فترة " لم يكن الانترنت دخل بيتنا و لم أكن أعرف شيئاً عن الفضائيات " .. لذلك كان ظهور فيلم للرجل ذي الشارب القصير المضحك و تلك القبعة و عصاته التي يلوح بها على شاشة التليفزيون كان حلما لطفل مثلي ... بطريقة ما كنت أعتقد أن هذا الرجل عاش حياة سعيدة طوال حياته ليكون قادراً على اضحاكي بهذا الشكل دون أن يفتح فمه و يتكلم مثل أبطال الأفلام و المسرحيات المملين الساذجين .. ليتني كنت مثل تشارلي شابلن و ليت تشارلي شابلن كان أبي ليضحكني للأبد ... ليت كل التليفزيون تشارلي شابلن .. و بعقلية طفل صغير فكرت أننا يجب أن ننصب تشارلي شابلن رئيساً للجمهورية ... سنكون على الأرجح أسعد شعب على الاطلاق .



كبرت و أصبح من المتاح مشاهدة أفلام تشارلي شابلن كلها و هذا قادني بدوره لقراءة سيرة هذا الرجل الذي شكل جزءاً كبيراً من سعادتي و أقدمت على قراءة كتاب "قصة حياتي" لتشارلي شابلن الذي ترجمه و قدمه كميل داغر و عند القراءة صُدمت ... تلك الحقائق التي ترعرعت في عقلي عن سعادة هذا الرجل كانت لا تمت لواقعه بصلة على الاطلاق ... هذا الرجل قد هوى في بئر البؤس حتى وصل لقاعه بالفعل ... الحياة ضاقت على تشارلي و والدته و أخيه سيدني و اجتمعت مصطلحات الفقر و البؤس و الضنك و التشرد لتكون جديرة بوصف حياتهم و هذا أفضى بوالدة تشارلي إلى الجنون الأبدي .. الأمر الذي تسبب في اكتئابها طوال حياته .... تغيرت وجهة نظري في تشارلي شابلن و كلما ظهر على شاشة التليفزيون أتعجب منه .. حتى التشرد الذي عانى منه في حياته استغله هذا الرجل ليضحك الجماهير و هذا هو ما قاله روجيه فردينان رئيس جمعية المؤلفين في فرنسا لتشارلي شابلن يوم إعلانه عضو شرف في الجمعية .. و كان من ضمن الجمل التي قالها روجيه موجهاً كلامه لتشارلي :

" نحن نعرف كما عانيت أنت و من أي هموم ولدت هذه التفاصيل التي استنبطتها من أمور حياتك لأن ذاكرتك لا تنسى أصلك يا تشارلي و لذلك أردت أنت ألا يعيش حياتك غيرك و هذا سبب كبير تعشقك الجماهير من أجله "

.

تكثر الصور المؤثرة التي تتداول على مواقع التواصل حول الطفل الذي يبيع الحلوى لكنه لا يقربها و تلك الطفلة المتشردة التي تبيع الورد و لا يهديها أحد وردة ... هذه الصور مؤثرة بشكل كبير و هي من صلب موضوعنا لكني قصصت ما تأثرت به أنا و ما اقتربت منه أكثر من اقترابي من طفل يبيع حلواه أو طفلة تبيع الورد و يصبح الدرس الأخير من تلك القصص أنه لا يشترط أن يكون بائع السعادة يعهدها .. بل قد لا يعرف طعم السعادة طوال حياته و لقد كثرت القصص حول البلياتشو الذي أضحك الناس في السيرك و لمحه الجميع يخرج في آخر السهرة من فتحة خيمة السيرك الخلفية مطرقاً رأسه في الأرض حزيناً لسبب ما ... لذلك تفهمت الآن قدرة صديقي على القاء الدعابات بينما بيته كان يعج بالمشاكل و اضطهاد أبيه له ... كل ما في الأمر أنني أريد أن أقابل هذا الصديق مرة أخرى و سأنتظر أن يلقي دعابة لأضحك عليها ملء فمي ... لن أبرحه ضرباً وقتها .. بل سأضحك على دعاباته و سأخبره أنني أحب دعاباته لكن عليه أن يلقي واحدة ...واحدة فقط و سأضحك جداً .
الاسمبريد إلكترونيرسالة

  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ❤️